السخنة والمد البشري (الهجرة) ، المقدمة - الأسباب - النتائج ، بقلم الأستاذ محمود العطيش
تقف السخنة بكل مشقة وعناء . واجفةً على صراط بيئةٍ صحراوية قاحله ، قاسية الأنواء متطرفة المناخ ، شحيحة الموارد ، قليلتها ، وإضافة لندرتها ومحدوديتها فهي صعبة المنال ، فما أعسر الحصول على لقمة العيش بها ، ولكم عانى أهلها من شظفه وقساوته ومن مرارة الشقاء في سبيل الحصول على لقمته - لا بارك الله بلقمة شقائها أكثر من خيرها - ذهبت مثلا في السخنة.
لكنها مع هذا نالت لقب "قرية الخبز" واشتهرت به في زمنٍ عزَّ فيه الخبز. مقدمة فجاءت هذه المعطيات البيئية القاسية في مقدمة الأسباب المحفزة للهجرة والمد البشري منها والقليل إليها. فتفرق أهلها ساعين مكافحين ليعيلون براعم أفئدتهم وفلذات أكبادهم لكنهم تجمعوا وتآلفوا حيث حطت بهم الرحال. فقلما تجد مدينة تخلو من اسم حي السخاني أو حارة السخاني ، حتى في دمشق العاصمة -حي الميدان- هناك ساحة السخاني وحارة ومسجد السخاني. وحديثا كادت مالطا أن تكون كذلك.
لكن هذا النوع من الهجرة لايصح أن نصنفه بالهجرة الجماعية ، حتى وإن كانت الهجرة واسعه ، لأنه يقتصر على العاملين فقط ولايشمل كافة السكان ، على خلاف النوع الثاني والذي سيرد ذكره بعد قليل بحيثياته وأسبابه. بعد البحث في نتيجة مهمة للهجرة والمد البشري.
السخنة قديمة العهد
2. من خلال الإطلاع على المراجع التاريخية وخاصة مراجع ما بعد الفتح الإسلامي ، نجد أن "السخنة" قديمة العهد إذ ورد اسمها في تلك المراجع منذ أكثر من ألف عام ، ذكرت مع بداية الفتح الإسلامي لبلاد الشام مرورا بتاريخ دولة حلب الحمدانيه ، حيث أن سيف الدولة الحمداني زارها وبرفقته الشاعر ابو الطيب المتنبي ، مرورا بالعهد الأيوبي والعباسي وهذا دليل قاطع على قدمها.
وبالمقارنة بين قدمها من جهة واتساع رقعتها من جهة أخرى نجد أن اتساعها لا يتناسب وقدمها. كان يجب أن تكون أكثر اتساعا وأكبر حجما ولكن بسبب المد البشري المستمر والهجرات المتتالية حدت من اتساعها وبقيت بطيئة الاتساع والنمو وهذ من النتائج الهامة بشريا وإلا لكانت اليوم بمصاف المدن الكبيرة من الإتساع والحجم.
والآن وللمزيد من المعرفه لابد من اللجوء إلى منهج المقارنة والقياس والإستنتاج ، كما نوه بذلك واضع أسس علم الإجتماع وخاصة إذا شحت وقلت المصادر التاريخية -رحم الله ابن خلدون- أعتقد تجوز الرحمة عليه لأنه مسلم.
السخنة وكبيسة
3. هناك تشابه بيئي واضح وجلي مابين كل من السخنة الواقعه في قلب بادية الشام وبين بلدة الكبيسة الواقعة على الحواف الشرقية لها وفي أطراف صحراء العراق الغربية (الرمادي) ، هذا التشابه البيئي الصحراوي المتطرف ، أدى إلى تشابه الأنشطة البشرية الإقتصادية التي يزاولها كل من سكان السخنة وسكان الكبيسة وخاصة مهنة التجارة والتجول بين سكان البادية للبيع والشراء. وعندما يحين موعد جني واستيفاء الديون من سكان البادية الرحل نهاية فصل الربيع وبداية فصل الصيف فيصدف أن يجتمع الكبيسي والسخني عند أحد المدانين ، فيكون الوفا للكبيسي أولا وثم للسخني ثانيا ، هذا ماحدثني به أحد أصحاب الخبرة والفطنة والعبرة من السخنة رحمة الله عليه.
وعند سؤالي له لماذا الكبيسي أولا والسخني ثانيا أجابني بتقة ، الكبيسي يقف خلفه جل سكان زور العراق وخاصة الرمادي فيهابونه سكان البادية الرحل فلا يبخسونه حقه ولا يماطلون فيه ، على العكس من السخني الذي لايجد من يقف خلفه ويسانده. فأيقنت تماما بهذه الظاهرة ، حيث أن السخنة بعيدة كل البعد عن المدن التي تبعت لها ( حلب - دير الزور- واخيرا حمص) فعاشت وحيدة منفردة ، عانت من الضعف وعانت من ظلم الأقوى وتعسفه وخاصة عندما ينعدم الأمن وتضعف سلطة الدولة ، كما حدث مثلا إبان الحرب العالمية الأولى وأثناء غزو التتر والمغول وأثناء قيام حركة القرامطة واستيلائهم على أجزاء واسعة من مساحة الدولة العباسية.
الهجرة بسبب الضعف والقوة
4. هذا هو السبب الرئيسي الثاني للمد البشري والهجرة السخنية ( الضعف والخوف من الأقوى ) وقد يؤدي هذا السبب إلى الهجرة الجماعية لكافة السكان كما حدث لكل من عرض ( الطيبة ) والمناظر ( الكوم ) خلال الحرب العالمية الأولى ، شتاء عامي 1916 / 1917 حيث تعرضتا للغزو من قبل من كانوا يدفعون له الخوة ، ( راجع كتاب السخنه محطة القوافل ) مع الإنتباه لبعض ماورد به. وبالطبع سنتحدث عن هاتين الهجرتين في منشور لاحق بعون الله تعالى.
الهجرة وأسباب أخرى
5. أسباب محلية أخرى يجب أن لانغفلها ، ساهمت في الهجرة والمد البشري والتي يغلب على معظمها الطابع الفردي وأقلها يغلب عليه الطابع الجماعي ومنها على سبيل المثال حالات المصاهرة والزواج وجذب القرابة للقرابة والجذب العشائري والقبلي وحالات الثأر وهي قليلة جدا في السخنة والحمد لله. وهناك حالات التنافس على المواقع ودور النفوذ ولها أثرها في الهجرة وهناك حالات متطلبات المهنة حيث يجبر المهني لأن يهاجر إلى موطن مهنته حتى وإن كانت حداء الإبل وقيادتها ، كما حدث في دمشق العاصمه وضواحيها من هجرة للسخاني ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
انتهى موضوعنا هذا والذي نأمل أننا وفقنا من الله بعرضه وتحليله ، نلقاكم في منشور آخر والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وللرجوع للمنشور الأصلي في صفحة الأستاذ محمود العطيش.
إقرأ أيضا
الطيبة الشرقية قراءة تاريخية لتراث زاخر كتبه قاسم حميد الزيتون
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق